محو الأمية الثقافية

07:30 م | الإثنين 01 يوليو 2024

لا بدَّ أن نعترف -بداية- أننا نعتبر «الثقافة رفاهية»، رغم أن حل مشاكل مصر السياسية والاقتصادية يبدأ بنشر ثقافة التنوير، ضد «خفافيش الظلام» الذين يحرمون علينا حياتنا، ويسممون أفكار أولادنا، حتى يتم تجنيدهم.. وأن الرهان كان معقوداً على «قصور الثقافة» لتدريب الشباب والأطفال على العقلية النقدية، وإطلاق طاقاتهم الإبداعية.. بعدما أهدرنا قيمة العقل والثقافة لسنوات طويلة.

«الثقافة» كائن نورانى يمس القلب ويرتقى بالعقل ويوجه الوجدان، إنه عملية خلق إبداعية تعزف على أوتار الموهبة.. وهذا لا علاقة له إطلاقاً بفكرة «الوظيفة».. بل إن الثقافة التى تعنى الحرية والتجديد والإبداع تحطم قيود الوظيفة ومواعيد العمل.. ولا بد أن تكون «مصرية خالصة».. إنها ابنة شرعية للنور، لأنها تعلى من شأن «الإنسان».

كان «السادات»، رحمه الله، يتندر دائماً على المثقفين، ويسميهم «الأراذل»، وحتى الآن هناك مَن يعتبر الحديث عن الثقافة «ترفاً»، فى مجتمع يعانى الغلاء ويفتقد منظومة تعليمية سليمة وميزانية كفيلة بتحريك عجلة البحث العلمى، وأن على المثقف أن ينغلق على ذاته (مثل مريض التوحد)، ليقرأ أو يكتب أو يلعن الجهل والخرافة سراً.. ويترك الشعب يفتش عن احتياجاته الأساسية من مأكل ومسكن ورعاية صحية!.

وقبل أن يأتى وزير الثقافة الجديد، فنحن لا ندين أحداً ولا نتهم أحداً بالتقصير، لقد كتبت كثيراً عن أهمية تغيير «الثقافة السائدة»، التى خلّفها حكم الإخوان وتغلغل التيار السلفى فى المجتمع، أو بالأدق «غياب الثقافة» عن أجندة العمل الوطنى، واقتصارها على عدة مهرجانات ومعرض للكتاب.. وانهيار «قصور الثقافة»، وتهميش شباب الأقاليم وصعيد مصر، مما يجعلهم أرضاً خصبة لاستقبال كل الأفكار التكفيرية التى تضمهم إلى كتائب التنظيمات الإرهابية.

أنا أتحدث -هنا- عن الثقافة بمعناها الأشمل: culture، والتى تُعتبر «نموذج حياة»، يميز كل مجتمع عن الآخر، ويتضمن: (السلوك والمقدسات والقوانين والمعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات والتراث... إلخ)، لكننا أصبحنا «أمة لا تقرأ»، وتعيش على «الثقافة البصرية» التى تبثها شاشات الفضائيات الخارجية، وتكتسب «المعرفة» سمعياً.. من وسائل التواصل الاجتماعى أو من «الشائعات».. وذلك رغم بروز عدد من أسماء الكتاب الشباب، وبزوغ نجم جيل جديد من الكُتاب.

بوضوح ليس دور وزير/ة الثقافة افتتاح المهرجانات والوقوف «تشريفة» لافتتاح المشروعات العملاقة للحضارة المصرية، دوره أن يكون «مؤثراً» فى الواقع المصرى.. إن مفكراً واحداً كفيل بتغيير توجهات مجتمع ما فما بالنا بوزارة عملاقة تضم كل هذه الهيئات وتخصص لها ميزانية (إن لم تكن كافية لا بد أن تزيد).. وقدرة هذ الوزير على إصلاح وتغيير الأمية الثقافية!.

لماذا لا يسعى مثلاً لخلق مراكز ثقافة وإشعاع محلية فى الأقاليم وصعيد مصر.. وفى هذه المراكز يكون التثقيف تطبيقياً، من خلال ورش العمل لكتابة السيناريو والقصة القصيرة والرواية، لمَن يريد.. ومن خلال التدريب على فنون الموسيقى والغناء والتمثيل، وإحياء الرقص الشعبى والتراثى.. ويجرى تدريب الشباب فى الورش أيضاً على مختلف الفنون التطبيقية، مثل الرسم والنحت والفخار وما إلى ذلك.

وبدلاً من القوافل الثقافية يمكن تنظيم زيارات يقوم بها النجوم فى كل تخصص للاحتفال بمَن تخرجوا فى الورش أو بمَن فازوا فى مسابقات لأحسن سيناريو، أحسن قصة، أحسن لوحة... إلخ.

بالإضافة إلى ذلك يمكن تحويل مراكز الشباب فى مختلف أنحاء الجمهورية إلى مراكز تدريب، تمولها الشركات والهيئات التى تحتاج عناصر مدربة على مهارات معينة.

أعلم أن مهمة وزير الثقافة «ثقيلة»، لكن الثقافة كانت أيقونة اشتعال فى ثورة 30 يونيو 2013، حين بدأ المثقفون اعتصاماً مفتوحاً، دفاعاً عن هُوية مصر الفنية والحضارية، التى حاول الإخوان الإرهابيون طمسها بسرقة دار الأوبرا المصرية.

ولا أغالى إن قلت إن مصر بحاجة إلى «ثورة ثقافية» تقضى على «ثقافة الكراهية»، وتمحو «جهل خريجى الجامعات»، وتحارب العنصرية والتمييز ضد المرأة والأقليات الدينية.. ثقافة تصل إلى «عصب المواطن» فى القرى النائية والنجوع، وتدعم حرية الفكر والبحث العلمى والإبداع.. نحن بحاجة لثورة ثقافية تعيد لمصر «هويتها الحضارية»، وترفع الصدأ عن «الشخصية المصرية»، التى تحولت إلى «مسخ» فى مناخ يسوده فساد الذوق العام.. حتى أصبح الحديث عن «قوتنا الناعمة» نغمة «نشاز» فى مجتمع يجافى الفن التشكيلى ويتعامل مع المسرح والدراما والموسيقى وحتى فن العمارة بشكل استهلاكى.. ويعتبر «التراث الثقافى» تخلفاً، والحضارة الفرعونية «وثنية»!!.

نحن نحتاج ثقافة تبنى «الإنسان» ولا تقتصر على «النخبة».. وهذا يحتاج تكاتف الدولة بكامل أجهزتها.. والجملة الأخيرة كفيلة بإثارة الإحباط.. فقد كتبت كثيراً ولم يسمعنى أحد فهل أراهن على الوزارة الجديدة؟؟.

أنا متفائلة.