حتمية التمسك بالنموذج المصري

07:59 م | الإثنين 01 يوليو 2024

أمام الحكومة الجديدة العديد من تجارب التنمية الشاملة حول العالم، لكن هناك نموذجين لا أعرف لهما ثالثاً إلا فى مصر التى تميزت بخصوصيتها، واعتمدت على قدراتها، واستعانت بأهلها وناسها.

النموذج الأول عملية التنمية شاقة وصعبة وقاسية، تتم أفقياً، يشارك فيها كل فرد فى الدولة، لكن ليس من المنتظر أن يشعر كل فرد بالنتيجة قبل 30 - 35 سنة على الأقل، وهو نموذج بطىء يحتاج إلى دولة شديدة السلطوية، شديدة المركزية، شديدة البأس والبطش، حجم الظلم فيها عنيف، يلجم الطبقة الغنية ويعصر المتوسطة، لكن تستفيد منها الطبقة الفقيرة والمعدومة أكثر وأسرع.

يجرى توزيع المهام والوظائف فى هذا النموذج مركزياً، ثم تحصد الدولة النتائج حصرياً، قبل أن تعيد توزيعها على الجميع بالتساوى، لا فرق بين من كد أكثر أو أنتج أكثر أو أنجز أكثر، وبين من فعل أقل.

يعاد فى هذا النموذج تشكيل البيئات المحلية، وتوجيهها لخدمة التنمية المخططة، الأمر الذى يشمل تغيير نمط الحياة فى كثير من المدن والقرى، ويعيش الجميع على الحد الأدنى من الأساسيات.

يصف البعض هذا النموذج بـ«عدو الآيس كريم» الذى يُعد رمزاً للرفاهية المحرمة، باعتباره إهداراً للألبان والسكر والطاقة التى من المفترض أن توجه للتصنيع الغذائى الحقيقى الذى تحدده الدولة.

النموذج الثانى أن تسير عملية التنمية رأسياً، شاملة الطبقة الغنية والمتوسطة فقط، وعلى الفقيرة أن تنتظر دورها المتأخر على سلم أولويات الدولة غير المركزية.

يجرى اختيار هذا النمط من التنمية وفقاً لأصحاب الأعمال، يكون فيه احترام حرية الفرد مطلقاً مهما كانت وكيف كانت ومتى كانت، قد تنفق الدولة أموالاً ضخمة على الرفاهية التى ستجلب الاستثمارات، ويفضلها الأغنياء ومن هم قادرون عليها من الطبقة المتوسطة.

ليس فى هذا النموذج مكان للفقراء، سيُطردون تحت ضغط الحياة غير الآدمية لخارج المدن، وبعيداً عن خطوط النقل والتنقل، ويصبح أغلب الريف مستنقعاً للفقر المدقع والمرض العضال، ولن يتحدث عنه الإعلام الحر المملوك لرجال أعمال.

هذا النموذج سريع الحصاد، ينقل الدولة فى غضون 10 سنوات إلى مصاف الدول النامية، ذات الاقتصاد القوى، تكون كل أسعار السلع والخدمات وفق الكتالوج الغربى منزوع الوطنية.

يصف البعض هذا النموذج بـ«صديق الآيس كريم»، والذى سيكون عدد نكهاته أكثر من مستشفيات ومدارس مناطق الفقر المدقع، التى لن يجد من فيها سوى مافيا المخدرات وتجار التجارب على البشر وأباطرة الأعمال غير الشرعية ملاذاً لهم فيجرى استغلالهم إلى أبشع مدى.

لست فى حاجة لضرب أمثلة على النماذج، فهى ظاهرة للعيان لمن يقرأ ويتابع ويدرس كيف نهضت الأمم فى القرن العشرين.

مع ملاحظة أن أى نجاح لأى نموذج يتطلب ثبات وحياد العوامل الخارجية.

النموذج المصرى كان مختلفاً، لا أعتقد أن هناك من فعل مثل ما فعلنا بهذا البلد؛ الذى «انقلب» حاله الفاسد المخجل، إلى حال يشرف ويجعلك فخوراً ببلدك، الذى قمنا ببنائه فى ظل ظروف قاسية.

فى هذا النموذج تجرى التنمية على أوسع نطاق أفقياً ورأسياً، تناغم زمانى ومكانى، خطط شديدة الاتساع، شديدة العمق، شديدة السرعة، منحت الفقراء نصيباً واضحاً ومعتبراً، وتركت المجال للطبقة الغنية لتحدد أولوياتها، وتمدد مشروعاتها، بل شاركتها الأفكار والمشروعات، وجعلت الطبقة المتوسطة تشعر بقيمتها وأهميتها وعبقريتها.

من الوهلة الأولى تشعر أن هناك أنماطاً مختلفة متعايشة مثل ما يطلق عليه شعبياً شواطئ «الغلابة» فى شمال الدلتا و«الطيب والشرير» فى الساحل، يعيش الثلاثة فى نفس الزمن، يستفيدون من نفس البنية الأساسية الجديدة والمطورة.

تطوير جارف للعشوائيات، يمنح أهلها وحدات جديدة مفروشة ومجهزة بالمجان، وتعمير هائل للمدن الجديدة والقديمة، بأسعار متدرجة وفق مستويات الطبقة المتوسطة، وعروض لا متناهية لوحدات سكنية بدون سقف سعرى تُشبع طموحات الأغنياء.

كل هؤلاء يستخدمون نفس الطرق، نفس محطات المياه المحلاة، نفس محطات الكهرباء العملاقة الجديدة، نفس شبكات الغاز الممتدة حتى أطراف الجمهورية، وغيرها، بل إنهم يتحملون نفس أشكال تخفيف الأحمال، ويدفعون نصيبهم من أثمان التنمية الباهظة.

النموذج المصرى، رغم أنه قد يجمع بين مزايا النموذجين السابقين، إلا أنه أيضاً يتحمل أعباءهما، لكن فى فترة زمنية ما بين 15 - 20 سنة.

ليس هناك مواطن واحد، مهما كانت طبقته، لم يتحمل أعباء التنمية، هذا ليس جديداً، لكن بالتبعية أيضاً ليس هناك إنسان على أرض المحروسة لم يشعر ببعض ثمار التنمية.

ليس أمام الحكومة الجديدة سوى التشبث والقبض على هذا النموذج المصرى الذى أثمر نتائج شديدة العمق والقوة والتنوع أيضاً، فلا تراجع أو تخاذل عن القرارات التى دفع المصريون ثمنها، ومن حقهم الآن أن ينعموا أكثر بثمارها.

هذا ما يجب على الحكومة الجديدة الالتزام به.