الحمض النووي الروسي

08:30 م | السبت 29 يونيو 2024

العلاقة بين روسيا و الغرب .. مرتبكة وشائكة .. تقوم على التعاون في مرات قليلة .. ويظل فيها الصراع عنوانا مرات أكثر ..أوراق التاريخ وحدها هي التي تسرد كيف بدأ الصراع بين الشرق و الغرب منذ قرون عديدة ولماذا ظل التوتر بينهما السمة الأبرز.. و كيف يفكر صانع القرار الروسي ويرفض كل محاولات الدمج الثقافي و المالي مع الانظمة الغربية.

بل يوجد بدائلا لمطاعم الوجبات السريعة الغربية ومستحضرات التجميل وحتى الشخصيات الكارتونية بمسميات روسية تتحدى العولمة الغربية على أرض موسكو.

في كتابة روسيا و الغرب.. لمن الغلبة؟ يحكي الصحفي الألماني القريب من دوائر السياسة الروسية ألكسندر راررتفاصيل هذه القصة التي بدأت من انقسام الكنيسة في روما و بيزنطة.

فى القرن الرابع الميلادي انهارت الإمبراطورية الرومانية القديمة التي حكمت أوروبا وشمال أفريقيا وغرب آسيا وانقسمت الى الامبراطورية الشرقية أو البيزنطية والامبراطورية الرومانية الغربية التي لم تدم طويلا.. وتبع ذلك انقسام الكنيسة إلى الكنيسة الكاثوليكية في روما.. والكنيسة الشرقية الأرثوذكسية في بيزنطة وامبراطوريتها التي استمرت لما يقارب الألف عام.

ظل هذا الشقاق قائما وقسم القارة الأوروبية و معها العالم الغربي برمته إلى حضارتين مختلفتين.ومعه ظلت أوروبا طوال الوقت منقسمة؛ الا أن سيطرة الكنيسة الكاثوليكية في روما كان أول شكل معروف للاتحاد الأوروبي..حتى أن شارلمان في القرون الوسطى جعل من التقاليد الرومانية أساسا لهيكل أوروبا الجديدة.. التي أفضت للحملات الصليبية.. ثم كان للثورة الفرنسية التأثير الأكبر حيث أنشأ نابليون بونابرت اتحادا أوروبيا جديدا بنكهة الثورة الفرنسية.

ظل الأوروبيون يحترمون روسيا ولكنهم يكرهونها.. يقتربون منها لكنهم يخافون من اتساع رقعتها الجغرافية و كثرة مواردها الطبيعية.

وفى عام ١٤٥٣ سقطت القسطنطينية واختفت حضارة بيزنطة ذات الألف عام على يد الإمبراطورية العثمانية.وحين أعلنت روسيا القيصرية نفسها وريثا للحضارة البيزنطية بتاريخها الذى يمتد لألف عام، وأصبحت بمثابة "روماثالثة".

وحافظت روسيا على هذه المكانة لخمسة قرون تقريبا.

وهنا بدأت تتضح ملامح هذا الشقاق.

وفى الوقت الذى انشغلت فيه أوروبا باكتشاف أمريكا عبر اسطول البحار الاسباني والبرتغالي في القرن السادس عشر ومن بعدهم الأساطيل الانجليزية والفرنسية، كانت روسيا تتوسع فى سيبيريا وشمال وشرق أوروبا.. ومنعت روسيا كارل الثاني عشر ونابليون بونابرت و أدولف هتلر من تحقيق طموحاتهم بإنشاء نظام أوروبى جديد.

وكانت تخرج من أي حرب منتصرة ما ساعدها فى دعم مواقفها فى أوروبا رغم أنف المعارضين لها.

ثم أصبحت روسيا تلعب دور الدولة العظمى فى أوروبا منذ مؤتمر فيينا (۱۸۱٥) بعد أن تحالفت مع النمسا وإنجلترا وبروسيا وتمكنوا جميعا من دحر نابليون وأصبحت روسيا عضوا مشاركا فى تأسيس كيان أوروبى جديد في القرن التاسع عشر.

وفى بداية القرن العشرين سقطت روسيا القيصرية وظهرت النسخة الشيوعية أثناء الحرب العالمية الأولى.. سقط آخر القياصرة الروس نيقولا الثاني عام ١٩١٦.. وفضح الروس البلاشفة المخطط الانجليزي الفرنسي المعروف بمخطط (سايكس -بيكو) الرامي لتقسيم ماتبقى من الخلافة العثمانية في العالم العربي الي دويلات تسيطر عليها أوروبا.

لم ينس الغرب هذا الأمر وتعامل باحتقار مع روسيا البلشفية.

بسبب الحكم الشيوعي المناويء علانية لكل قيم الليبرالية الغربية السياسية والاقتصادية والثقافية.

أراد الغرب مشاركة السوفيت عسكريا في الحرب العالمية الثانية لكنهم لم يوافقوا يوما ما على الحكم الشيوعي.. وانغلق الشرق في تمدده الذي انتهى في برلين عام ١٩٤٥.. حين تقسمت شوارعها بين المنتصر الآتي من الشرق ومن الغرب.

ومن بعدها بدأت سنوات الحرب الباردة حتى أنتهت بتفكك الاتحاد السوفيتي عام ١٩٩١.

وفي الوقت الذي حاول فيه بوريس يلتسن التماهي مع المجتمع الغربي .. استيقظت الغيرة في عروق خليفته فلاديمير بوتين الذي أدرك أن بلاده لا تستحق الخضوع للغرب وبدأ في احياء الاتحاد الأوراسي واقامة منظمة البريكس واقامة نظام بديل للتحويلات البنكية العالمية المعروف باسم السويفت واقامة منظمة شنغهاي للتعاون مع الصين والهند وباكستان وايران وعدة دول اسيويه.. لمواجهة حلف الناتو.

خطوات بوتين توضح أن وجود اللاعب الروسي في المشسهد يربك عدة معادلات غربية للهيمنة على العالم .. وخصوصا مع ظهور لاعبين جدد على ساحة الشسرق مثل الصين والهند وايران.

باعتقادي أن الخلاف أعمق وأقدم من أن يختزل في قضية أوكرانيا أو حتى الحرب الباردة وجدار برلين.. أي أن شقاق الشرق والغرب يطول شرحه وتضرب جذوره في أعماق التاريخ أبعد كثيرا من القرن العشرينفالقاريء والمتأمل لهذا المشهد يدرك جيدا أن الحمض النووي الروسي الموجود في عقيدة الروس يشهد أن وجود الكنيسة الارثودكسية بها هو الذي جعل القيم الأخلاقية الروسية ترفض زواج المثليين والحريات الغربية وامتصاص دماء الفقراء.. هو ذات الحمض النووي الذى يستقطب يوما بعد الاخر كل الرافضين والخاسرين لهيمنة الغرب على القرار العالمي.