د. أحمد صقر عاشور يكتب: حوكمة التعليم العالي

د. أحمد صقر عاشور

د. أحمد صقر عاشور

09:53 م | الإثنين 19 أكتوبر 2020

خلال العقدين الأخيرين أتيح لى أن أرقب عن قرب الأوضاع المؤسسية للتعليم العالى، بحكم تخصصى العلمى والمهنى فى مجال الإصلاح المؤسسى والحوكمة، وكذلك بحكم ما شغلته من مواقع، كمستشار للتخطيط الاستراتيجى لوزارة التعليم العالى، وكرئيس للجنة أحد قطاعات التعليم العالى التابعة للمجلس الأعلى للجامعات، فضلاً عما قمت بقيادته من مشروعات تطويرية فى مجال التعليم العالى. ورغم خطورة الدور الذى تلعبه مؤسسات التعليم العالى فإن مشكلاتها وأوضاعها القائمة تقف عقبة فى تحقيق جودة رأس المال الإنسانى وإنتاج المعرفة، وبالتالى إسهامها المفترض فى تلبية احتياجات التنمية. ونعرض فى هذه الدراسة جوانب الاختلال المؤسسية والهيكلية، والممارسات الضارة المرتبطة بها، ثم نقدّم مجموعة من المقترحات للعلاج ولتحقيق حوكمة جيدة (بمعنى تناسق هياكل السلطة وتوزيعها والمساءلة التى تقابلها).

الأوضاع الراهنة

تعانى مؤسسات التعليم العالى فى مصر من اختلالات بالغة فى الحوكمة تتزايد سنة بعد أخرى، ومن قصور فى الإطار التشريعى الناظم لعمل هذه المؤسسات.

دور القيادات مهم للبدء في بناء ثقافة تقوم على النزاهة والجدارة والموضوعية وخدمة وتغليب المصالح القومية العليا

وعلى المستوى الكلى مثلاً هناك غياب لإطار وكيان استراتيجى قومى يخطط ويطور ويضع السياسات الاستراتيجية لهذا القطاع، ويتابع تنفيذها ويراقب النتائج المتحقّقة، وينسق بين المجالس العليا القائمة التى تضم القيادات التنفيذية للقطاع (الأعلى للجامعات الحكومية، والأعلى للجامعات الخاصة، والأعلى للمعاهد العليا). وهناك قصور موازٍ فى هياكل الحوكمة لأغلب مؤسسات القطاع فى ما يتعلق بآليات ومعايير المساءلة عن الأداء الأكاديمى والتحسين فيه. وهى فى مجملها ينقصها التوجّه الاستراتيجى الذى يخدم الأهداف القومية وحتى المحلية. وفضلاً عن هذا فإن مؤسسات التعليم العالى تحكمها قواعد لائحية وإجرائية نمطية، فهى تُدار باللوائح والإجراءات، وليس بالأهداف والنتائج والجودة والإبداع. يضاف إلى هذا عدم مواكبة الهياكل لما هو سائد فى مؤسسات التعليم العالى المتقدّمة فى العالم من حيث الفصل بين هياكل صنع السياسات واتخاذ القرارات الاستراتيجية والرقابة على استخدام الموارد والأداء (مجالس الأمناء)،

 

وبين الهياكل الأكاديمية التنفيذية (المجلس الأعلى للجامعات ومجالس الجامعات والكليات والأقسام)؛ فضلاً عن عدم احتوائها على مجالس ديمقراطية لتمثيل أعضاء هيئة التدريس (برلمانات أعضاء هيئة التدريس Faculty Senate)، وتمثيل الطلاب (برلمانات الطلاب Student Senate). فإذا أضيف إلى هذا أن الإطار التشريعى الحاكم لمؤسسات التعليم العالى (قانون تنظيم الجامعات ولائحته التنفيذية)، لم يعد مُلائماً للتطورات والاتجاهات المعاصرة، وأنه لا يستجيب لاحتياجات التطوير الاستراتيجية، فضلاً عن أن بعض مواده فى حاجة إلى مراجعة شاملة فى ضوء المشكلات التى تركت لتتفاقم عبر سنين طويلة (مثل غياب المساءلة عن الأداء، والغياب الممتد لأعضاء هيئة التدريس فى الإعارات الخارجية، سعياً لزيادة الدخل، والتجمعات العائلية داخل الأقسام العلمية)، فإن الأمر يستلزم إعادة النظر بصورة شاملة فى هذا الإطار، لكى يحتوى على العناصر والركائز التى توقف الممارسات الضارة وتدفع بالتطوير وإعادة البناء للإطار المؤسسى الناظم لعملها. يضاف إلى كل ما سبق غياب الأهداف الموجّهة لعمل مؤسسات التعليم العالى، وعدم وجود مساءلة عن الأداء، أو أى تقييم وقياس له عبر مختلف المستويات. وفى غيبة هذا التقييم والمساءلة فى مجال التعليم مثلاً، نمت خلال العقدين الأخيرين ظواهر وممارسات سلبية شاعت فى برامج المرحلة الأولى ومرحلة الدراسات العليا كذلك. وتمثل هذه الممارسات فى مجملها تراجعاً وتدهوراً خطيراً فى جودة البرامج التعليمية ومصداقيتها، وفى مواصفات الخريجين من هذه المراحل. ومثلما الحال فى مجال التعليم، لا توجد مساءلة أو تقييم للأداء البحثى لأعضاء هيئة التدريس، اللهم إلا عند التقدّم للترقية. أما من وصلوا إلى مرتبة أستاذ، أو من دون هذا، ولم يتقدّموا للترقية، فلا يوجد نظام للمحاسبة والمساءلة عن النشاط والأداء البحثى. وقد تفاقمت وتوسّعت ظاهرة الرسوب الوظيفى لأعضاء هيئة التدريس الذين يصلون إلى سن التقاعد، وهم فى مرتبة مدرس أو أستاذ مساعد. وتراجعت خلال السنوات الأخيرة شروط ومواصفات جودة البحوث المقدّمة لترقية أعضاء هيئة التدريس، لضعف التأهيل والقدرات البحثية للمتقدّمين للترقية، حيث إن أغلبهم نتاج لنظام التهجين الذاتى In-breeding (تأهيل كوادر أعضاء هيئات التدريس ذاتياً) السائد فى الجامعات المصرية الحكومية منذ عقود. مما أدى إلى تراجع قدرات وجودة هذه الكوادر خلال العقود الأخيرة. والنظم المطبّقة فى الجامعات (خاصة الحكومية)، لا تحتوى على آليات مساءلة محفزة، ليس فقط على كم الإنتاج العلمى، ولكن على جودة وتميز هذا الإنتاج. الشىء نفسه ينطبق على برامج الدراسات العليا، وعلى الرسائل العلمية، وكذلك على الأنشطة المهنية والمجتمعية، فكلها تعانى إما من غياب آليات المساءلة أو من ضعف جودتها وصوريتها وهشاشتها. يضاف إلى ما سبق وجود فجوة استراتيجية كبرى فى الهياكل المؤسسية للتعليم العالى، تتمثل فى عدم وجود جامعات متخصّصة فى الدراسات العليا والبحوث فى مصر. وتلعب هذه الجامعات فى الدول المتقدمة والصاعدة دوراً كبيراً فى تأهيل أعضاء هيئات التدريس، وكذلك فى تنمية الحصيلة البحثية والمعرفية للمجتمع ككل. وهى تمثل آلية مهمة للاستجابة للاحتياجات التكنولوجية والمتعلقة بالابتكارات. فمن خلالها تتزايد الحصيلة العلمية والتكنولوجية للمجتمع، بما يصب فى تنمية وتنافسية قطاعات الإنتاج المختلفة فيه. ورغم تضاعف عدد الجامعات والمعاهد العليا فى مصر خلال العقود الأخيرة، وتضاعف إنتاجها البحثى وأعداد الكوادر العلمية التى تؤهلها، إلا أنه نتاج للجودة المتوسطة لأغلب النواتج البحثية، كما أن دورها ضعيف فى الإسهام بتنمية التكنولوجيا والابتكارات فى القطاعات الإنتاجية. ويرجع هذا إلى تركيز هذه الجامعات والمعاهد العليا على مرحلة الدرجة الجامعية الأولى وامتصاص هذه المرحلة لطاقات كل أعضاء الهيئات الأكاديمية (شاملة المعيدين والمدرسين المساعدين) فى هذه المؤسسات، بل واستغراق هذه الفئات كلها فى ممارسات السعى لزيادة الدخل بوسائل كثير منها يحمل صفة التربح من الوضع والسلطة الوظيفية، بما لا يترك طاقة فائضة للاستغراق فى أعمال بحثية أو أنشطة تستجيب لاحتياجات القطاعات الإنتاجية.

لم ينجُ قطاع التعليم العالي منذ نشأته من الفساد لغياب الضوابط المانعة له والواقية منه

الممارسات والأنشطة الطفيلية

لم ينجُ قطاع التعليم العالى منذ نشأته من الفساد، لغياب الضوابط المانعة له والواقية منه. لكن هذه الظواهر التى مثلت استثناء أو كانت فى نطاق ضيق فى الماضى، تحولت إلى ظواهر سائدة ومنتشرة، بل ومتبجّحة فى الكثير من مؤسسات التعليم العالى فى مصر. وتتزايد هذه الظواهر سنة بعد أخرى. فمن المكاتب والأنشطة الطفيلية التى تحيط بالجامعات لبيع الملخصات وأدلة الامتحانات والمحاضرات وتقديم الدروس الخصوصية (بمشاركة ممن داخل الجامعات)، خاصة كليات الأعداد الكبيرة وكليات الإنسانيات، إلى الدروس الخصوصية، التى يقوم بها أعضاء الهيئة الأكاديمية فى بعض مؤسسات التعليم العالى، إلى أعمال المحاباة لأبناء الأساتذة فى بعض الكليات، إلى تلقى الهدايا والعطايا من بعض طلاب الدراسات العليا (خاصة غير المصريين)، إلى صور التربّح من المواقع الوظيفية، إلى السطو على الملكيات الفكرية للكتب الأجنبية وكذلك العربية، إلى استخدام موارد الصناديق الخاصة دون ضوابط ودون قواعد تضمن الكفاءة والنزاهة وتكافؤ الفرص، إلى تقويض منظومة التعليم والتعلم واستبدالها بمنظومة للفساد والتربح وتبادل المنافع بين الطلاب والمدرسين والمسئولين عن التعليم (كما الحال فى التعليم الفنى وبعض المعاهد العليا)، إلى تقديم برامج تفتقر إلى الحدود الدنيا من مواصفات الجودة ذات عائد داخل مصر وخارجها تنمّى موارد المشرفين والقائمين عليها والمشاركين فيها دون سند قانونى. وتشكّل هذه الظواهر والممارسات فى مجملها آفة خطيرة تضرب سمعة ومصداقية ما تقوم به مؤسسات التعليم العالى المصرية. وإذا كانت هذه الظواهر أصبحت سمة غالبة فى الكثير من الكليات فى الجامعات الحكومية، وهى جامعات ومؤسسات يُفترض أنها تنفّذ سياسة الدولة، فلا عجب إن وجدت بعض شواهدها النظيرة والخطيرة فى مؤسسات التعليم الخاص. وأخطر ما فى الأمر هو تحول ظواهر الفساد ونزعات المصالح فى بعض الجامعات والكليات الحكومية والخاصة بصفة متزايدة إلى ممارسات نظامية وثقافة مستقرة متبجّحة وجامحة دون رقيب تضرب بعرض الحائط معايير الجودة والنزاهة الأكاديمية، نتاجاً لضعف منظومة الحوكمة والمساءلة.

نحو حوكمة جيدة للتعليم العالى

تتطلب مواجهة إشكاليات وفجوات الحوكمة والممارسات الضارة فى التعليم العالى إعادة بناء الهياكل والنظم المؤسسية فيه. وفى ما يلى نقدم عناصر منظومة الحوكمة شاملة نظماً وآليات لعلاج هذه الاختلالات وتحسين أداء هذا القطاع المهم.

أولاً: إعادة بناء هياكل الحوكمة: يحتاج الأمر إلى إنشاء كيان استراتيجى قومى (مجلس قومى للتعليم العالى) يخطط ويضع الأهداف والخطة والسياسات الاستراتيجية، ويراقب تنفيذها، وينسق بين المجالس العليا القائمة فى التعليم العالى. فالمجالس القائمة لا ينبغى أن تباشر هذه الأدوار، لأنها تضم القيادات التنفيذية لمؤسسات القطاع. ويقترح أن يضم المجلس القومى الجديد عناصر من ذوى الفكر والخبرة وممثلين عن الأطراف المعنية، مثل القطاعات الاقتصادية والإنتاجية، وممثلين عن الجهات التنفيذية للقطاع، مثل الجامعات والمعاهد العليا. وينبغى أن يكون للأطراف غير التنفيذية الغلبة فى هذا التشكيل. ويقترح أيضاً أن تستحدث مجالس أمناء للجامعات الحكومية والمعاهد العليا تباشر أدواراً مماثلة للمجلس القومى المقترح، لكن على مستوى كل مؤسسة.

يجب أن تتبنى مؤسسات التعليم العالي مجموعة سياسات وآليات لتقوية النزاهة في العمل الأكاديمي

يُكمل هذا إنشاء برلمانات لأعضاء هيئات التدريس، وكذلك للطلاب فى الجامعات والمعاهد العليا تكون آلية تشكيلها وهياكلها وأدوارها على غرار ما تأخذ به الجامعات المتقدمة فى العالم. ويتطلب الأمر أيضاً أن توضع خطة استراتيجية لكل جامعة أو معهد (تحت إشراف مجلس الأمناء) تنبثق من الخطة القومية، وتستجيب فى الوقت نفسه للاحتياجات التنموية المحلية للمنطقة والمحافظة التى توجد فيها هذه الكيانات. وتتدرّج الخطة لكل جامعة، نزولاً لتشمل الكليات والأقسام العلمية إلى المجموعات التخصّصية من أعضاء هيئة التدريس فى كل كلية أو معهد. وتشمل إعادة الهيكلة مراجعة الهياكل الموحّدة للجامعات الحكومية لتتضمّن قطاعات جديدة (مثل التخطيط والأداء المؤسسى)، مع تطوير مسميات بعض الكليات والأقسام التى تضمّها مسايرة لتطورات عالمية غابت عنها نتاجاً لصراعات المصالح أو للجمود الذى سيطر على هذه الكليات لعقود طويلة، (مثل كليات التجارة التى انقرض مسماها وهياكلها التخصصية منذ زمن بعيد، ومثل كليات الحقوق التى غابت عن النظم المعاصرة لتعليم القانون منذ عقود طويلة). كما ينبغى أن تنشأ كليات وتخصّصات معاصرة تفى بأوضاع واحتياجات مصر للعقود القادمة (مثل علوم الصحراء، والاقتصاد البحرى).

ثانياً: إنشاء جامعات للدراسات العليا والبحوث كجزء من إعادة هيكلة التعليم العالى: كما ذكرنا هذه الجامعات تمثل آلية تنموية مهمة ليس على مستوى التعليم العالى فحسب، وإنما لخدمة القطاعات الإنتاجية أيضاً من خلال استجابتها للاحتياجات التكنولوجية والمعرفية لهذه القطاعات. وينبغى أن يكون إنشاء هذه الجامعات جزءاً من إعادة هيكلة استراتيجية للتعليم العالى ككل، بحيث تصل يد التطوير وإعادة هيكلة الجامعات والمعاهد العليا القائمة. وتخصص الجامعات المقترحة فى البحوث والدراسات العليا التى تخدم أهدافاً وسياسات استراتيجية توضع على المستوى القومى. ويتم تنفيذ هذه السياسات بالتضافر مع الجامعات والمعاهد العليا القائمة (فى ما يتعلق باحتياجاتهم من أعضاء هيئات التدريس)، مع تبنى الدولة لسياسة ابتعاث داخلى لتأهيل أعضاء هيئات التدريس من خلال الجامعات المقترحة. ويعنى هذا أن يوقف نظام التهجين الذاتى المتبع حالياً، بحيث لا تقبل الجامعات القائمة طلاب دراسات عليا ممن يشغلون وظائف معيدين أو مدرسين مساعدين فيها. ولكى يكون إنشاء الجامعات المقترحة على أسس تضمن نجاحها، ينبغى أن توضع لها أنظمة وهياكل مغايرة لما هو سائد حالياً تكون على غرار الجامعات البحثية فى العالم. ويقترح أن يكون العمل فيها لأعضاء هيئات التدريس من خلال عقود تتدرج فى المدة من سنة إلى أكثر (على سبيل المثال: سنتان - ثلاث سنوات - خمس سنوات) حسب الإنجازات والأداء الأكاديمى فى كل عناصره. ويتطلب هذا أن يوضع نظام أجور وحوافز قوى ومتعدّد العناصر وكذلك للترقيات (بعيداً عن النظم الجامدة القائمة)، لجذب ذوى الإنجاز والقدرات والمواهب العلمية والبحثية من داخل مصر ومن خارجها. ويمكن أن تمثل نظم الجامعات البحثية الجديدة عنصر جذب للعلماء المصريين المغتربين ذوى التميز. وينبغى أن تلعب الجامعات البحثية المقترحة دوراً جوهرياً، ويكون من بين أهدافها الاستراتيجية إنشاء مؤسسات للعلوم والتكنولوجيا وحاضنات للابتكارات يتم التضافر بشأنها مع القطاعات والمؤسسات الإنتاجية والمؤسسات المالية، وتعزّزها سياسات قومية تتبناها الدولة لتشجيع الابتكارات، وتحفيز وتسريع تحولها إلى أنشطة ومشروعات اقتصادية. وينبغى أن يتوازى مع إنشاء هذه الجامعات إدخال إصلاحات استراتيجية على مؤسسات التعليم العالى القائمة. من هذه الإصلاحات مثلاً إدخال تغييرات جوهرية فى قانون تنظيم الجامعات، ليتضمن سياسات ومعايير جديدة للتوظيف والترقى، وكذلك للإجازات الأكاديمية Sabbatical، بحيث يتم القضاء على النظم والممارسات الرخوة السائدة حالياً بشأن الإعارات ومرافقة الزوج أو الزوجة، تناظر المأخوذ به فى الجامعات المتقدمة فى العالم. وكذلك ينبغى إعادة النظر بصورة شاملة فى هياكل الأجور والحوافز، بديلاً عن النظم الضعيفة المشتتة والمفككة المطبقة حالياً فى الجامعات الحكومية.

ثالثاً: إدخال نظام إدارة الأداء المؤسسى فى كل مؤسسات التعليم العالى: خلافاً لنظم الإدارة باللوائح والإجراءات السائدة فى مؤسسات التعليم العالى، فإن النظام المقترح Performance Management يقوم على إعداد خطط استراتيجية (تستند إلى الأولويات القومية والقطاعية والمحلية). ويشتق من هذه الخطط خطط تنفيذية وأهداف محدّدة ومؤشرات أداء يتم وضعها ومتابعتها وبناء قدرات المؤسسات والعاملين فيها لتحقيقها وقياس وتقييم وتحفيز والمساءلة عن الأداء المتحقق بشأنها، وذلك على كل المستويات، بدءاً من كيان المؤسسة ككل، وقطاعاتها ووحدات العمل بها، نزولاً إلى مستوى الأفراد العاملين الأكاديميين وغير الأكاديميين. وينبغى تضمين مختلف أبعاد الأداء، بما فيها جوانب النزاهة. ويسد هذا النظام فراغاً رهيباً فى مؤسسات التعليم العالى، خاصة الحكومية منها، حيث لا توجد خطط ولا أهداف ولا مؤشرات أداء، ولا أى صورة من صور المساءلة عن الأداء والنتائج المتحقّقة بشأنه على المستوى المؤسسى ومستوى الأفراد. وسيمثل نظام إدارة الأداء تغييراً جوهرياً فى النظم والممارسات السائدة فى الجامعات والمعاهد، خاصة الحكومية منها. ويحتاج إدخال هذا النظام إلى بناء قدرات هذه المؤسسات فى هذا المجال، وتغيير فى الأعراف والممارسات السائدة. وكذلك سيكون لإدخاله توابع على معايير توظيف وتقييم أداء وحوافز أعضاء هيئات التدريس (المالى منها والمعنوى). وجزء من التحفيز المؤسسى أن يتم منح جوائز للتفوق المؤسسى وللقيادات ولأعضاء هيئات التدريس المتميزين فى الأداء ضمن مسابقات تتم على مستوى الجامعات والمعاهد العليا وعلى مستوى قطاع التعليم العالى ككل. ولا ينبغى لنظام إدارة الأداء المقترح أن يقتصر على الجوانب والهياكل الأكاديمية، وإنما ينبغى أن يتضمن أيضاً الجوانب المالية والإدارية التى تدار حالياً بنظم صورية إجرائية لا تحقق الكفاءة ولا تشمل آليات فعّالة للرقابة على النتائج، ولا على نزاهة الممارسات.

رابعاً: برنامج مقترح لتعزيز النزاهة ومكافحة الفساد فى مؤسسات التعليم العالى: يهدف هذا البرنامج إلى تعزيز نزاهة الممارسات فى مؤسسات التعليم العالى، وتنقيتها من الممارسات غير القويمة فيه، ومكافحة الفساد الذى طال وتغلغل فى بعض قطاعاته ومؤسساته. ولا يتصور أن يتم النهوض بالتعليم العالى وبدوره الحيوى طالما بقيت هذه الآفات تقوّض برامجه وتبدّد موارده وتُضعف مخرجاته. لذلك يمثل تعزيز النزاهة ومكافحة الفساد والتصدى له وتحجيمه فى هذا القطاع المهم؛ ضرورة قومية وتنموية ينبغى أن تتصدّر أولويات برامج الإصلاح. وسيتطلب هذا تشخيص وتحديد المجالات الأكثر عرضة للفساد فى مؤسسات وقطاعات وبرامج ومجالات عمل التعليم العالى. كما سيتضمن تحديد الثغرات والفجوات فى المنظومة المؤسسية التى ينبغى معالجتها وسد منافذها لإغلاق المصادر التى ينفذ منها الفساد. ستمثل هذه الإصلاحات آليات وقائية مانعة ينبغى أن تعزز بإجراءات أخرى لزيادة الشفافية والمساءلة، وإجراءات للكشف والملاحقة والمكافحة والردع، وقواعد ومعايير لأخلاقيات العمل الأكاديمى، وكذلك لأدوار تقوم بها القيادات فى مختلف المستويات فى مؤسسات التعليم العالى. وسيكون دور القيادات مهماً للبدء فى بناء ثقافة وأعراف وقيم ومُثل جديدة تقوم على النزاهة والجدارة والموضوعية وخدمة وتغليب المصالح القومية العليا. ليس هذا فحسب، وإنما ينبغى أن يتم كل هذا من خلال مبادرات غير تقليدية تشارك فيها الأطراف المعنية بالنزاهة وممارسات وأوضاع الفساد القائمة فى منظومة التعليم العالى (داخل المنظومة وخارجها)، بما فى ذلك إمكانية وضع مؤشرات وآليات لمراجعة أوضاع وممارسات مؤسسات التعليم العالى فى مختلف المجالات، فى ما يتعلق بنظام النزاهة، وممارسات وأوضاع الفساد القائمة. وهناك حاجة للبدء بمجموعة من الإجراءات لردع الفساد ومنعه والوقاية منه فى مختلف مؤسسات التعليم العالى، خاصة تلك المشبّعة بظواهر وممارسات فساد أكاديمى، أو مالى، أو إدارى. وسيتطلب الأمر لتفعيل برنامج تعزيز النزاهة المقترح أن تجرى إعادة نظر شاملة فى نظم توظيف وإدارة وأجور وحوافز العاملين فى التعليم العالى. كما يتطلب الأمر أيضاً أن يكون هذا جزءاً من مبادرة أوسع وأشمل تتبنّاها الرئاسة أو الحكومة (مجلس الوزراء) لتعزيز النزاهة ومكافحة الفساد فى مجالات حيوية مختارة من القطاعات الحكومية.

ويقترح أن تتبنى مؤسسات التعليم العالى مجموعة متكاملة من السياسات والآليات التنفيذية لتقوية النزاهة والشفافية فى العمل الأكاديمى فى مختلف جوانبه، بما فى ذلك وضع ضوابط ومدونات أخلاقية، للعمل الأكاديمى، والإدارى والمالى أيضاً، بحيث يصاحب هذا آليات إنفاذ قوية. ويُقترح أن يكمل هذا تشكيل لجنة عليا مركزية على مستوى قطاع التعليم العالى للنزاهة والشفافية، تضم نخبة مختارة من المفكرين والشخصيات العامة المعنية بالنزاهة ومن الأساتذة المتميزين ذوى الخبرة، من جامعات مختلفة ويمثلون مجالات علمية متنوعة من المشهود لهم بالإنجازات العلمية المتميزة، والنزاهة وحسن السمعة. وتقوم اللجنة بالآتى:

اقتراح السياسات والمبادرات التى تعزّز النزاهة والشفافية على مستوى القطاع ككل، وتقلص وتعالج الظواهر والممارسات السلبية، وتسد الثغرات التى تعزز هذه الظواهر والممارسات.

اقتراح والإشراف على المسوح والدراسات الميدانية، وكذلك اقتراح وإعداد المؤشرات المتعلقة بالنزاهة والشفافية فى مؤسسات التعليم العالى.

اقتراح التعديلات فى القوانين واللوائح الحاكمة لعمل مؤسسات التعليم العالى لتعزيز النزاهة والشفافية.

متابعة برامج ومبادرات مؤسسات التعليم العالى، بما فى ذلك مواثيق الشرف والمدونات الأخلاقية الأكاديمية وآليات الإنفاذ الفعلى لها، وإبداء الرأى فيها.

إصدار تقرير كل سنتين عن حالة النزاهة والشفافية فى مؤسسات التعليم العالى فى مصر، يشتمل على تقييم الممارسات ومقترحات للتحسين والتطوير.

وينبغى أن يقابل عمل هذه اللجنة القومية، لجان مستقلة للنزاهة والشفافية على مستوى كل جامعة أو معهد عالى، تكون اختصاصاتها نظيرة للجنة العليا المركزية. ولكى تكون لهذه اللجان فاعلية، فإنه ينبغى أن تتشكل من أعضاء هيئة تدريس فى الجامعة أو المعهد من ذوى الجدارة والإنجاز المتميز والنزاهة، إضافة لأن يكونوا معنيين بقضايا النزاهة والشفافية، وبحيث ألا تضم قيادات تنفيذية، ضماناً لاستقلاليتها وحيادها. وترفع هذه اللجان تقاريرها لمجالس الأمناء المقترح إنشاؤها.

* أستاذ بجامعة الإسكندرية

المدير العام الأسبق للمنظمة العربية للتنمية الإدارية

اقرأ المزيد:

عرض التعليقات