مربع الرخاوة

07:15 م | الخميس 27 يونيو 2024

إذا كان عمر بن عبدالعزيز قد كشف المستور فى مسيرة الدولة الأموية، فقد كان عصر يزيد بن عبدالملك -الخليفة الذى جاء بعد عمر- «عصراً من الغناء» بامتياز، سواء على مستوى قصر الخلافة أو على مستوى الشارع الأموى، وكان ذلك تمهيداً للدخول إلى مربع «الدولة الرخوة».

فالخليفة كان شديد الغرام بالغناء، وليس فى ذلك شىء، فالغناء متعة من متع الحياة، لكن أن يصير «الغناء أولوية» وأساساً للحياة والأداء، ويغنى كله على كله، فذلك ما يهد المجتمعات هداً.كان الغناء فى عصر يزيد بن عبدالملك أولوية بالمعنى الكامل للكلمة.

بدأ حكمه برد وإلغاء كل ما صنعه عمر بن عبدالعزيز مما لم يوافق هواه.

وقد كان «يزيد» شديد الولع بالشعر والغناء، فاقتنى القيان (أى المغنيات) والشعراء فى قصره.

ويشير ابن الأثير فى «الكامل فى التاريخ» إلى أنه مات حزناً وكمداً على واحدة من مغنياته وهى «حبابة».

فقد وجد عليها وجداً شديداً حين ماتت، فخرج مشيعاً لجنازتها ومعه أخوه ليسليه ويعزيه، فلم يجبه بكلمة، وقيل إن يزيد لم يطق الركوب من الجزع، وعجز عن المشى فأمر شقيقه فصلى عليها، وقيل: منعه شقيقه عن ذلك لئلا يرى الناس منه ما يعيبونه به.

فلما دفنت بقى بعدها خمسة عشر يوماً ومات ودفن إلى جانبها.

لم يكن الغناء فى العصر الأموى مجرد أولوية داخل قصر الخلافة، بل كان كذلك داخل المجتمع ككل، يشهد على ذلك ما صاغه المؤرخون حول غرام واحد من كبار الزهاد فى عصر يزيد بن عبدالملك، وهو عبدالرحمن القس، بواحدة من أشهر المغنيات حينذاك، وهى «سلامة» التى أطلق عليها «سلامة القس».

ويحكى ابن الأثير أن «القس مر يوماً بمنزل مولاها فسمع غناءها فوقف يسمعه، فرآه مولاها فقال له: هل لك أن تنظر وتسمع فأبى، فقال: أنا أقعدها بمكان لا تراها وتسمع غناءها؛ فدخل معه فغنته، فأعجبه غناؤها، ثم أخرجها مولاها إليه، فشغف بها وأحبها وأحبته هى أيضاً، وكان شاباً جميلاً.

فقالت له يوماً على خلوة: أنا والله أحبك! قال: وأنا والله أحبك! قالت: وأحب أن أقبلك! قال: وأنا والله! قالت: وأحب أن أضع بطنى على بطنك! قال: وأنا والله! قالت: فما منعك؟ قال: قول الله تعالى: «الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدو إلا المتقين» وأنا أكره أن تؤول خلتنا إلى عداوة؛ ثم قام وانصرف عنها وعاد إلى عبادته.

الحالة التى وصلت إليها الدولة فى عصر يزيد بن عبدالملك كانت منذرة بالآتى، ومؤكدة على أن منحنى الأداء يكاد يصل إلى الحضيض.

فلك أن تتصور مآلات الأمور حين ينصرف الخليفة إلى الغناء ويستغرق فيه، ويصبح الشعر الذى يدبجه الشعراء فى مديحه أعظم عنده من العمل، ويصير غناء هذا الشعر بصوت من يهوى من المطربات جوهر الإنجاز، وتمسى المغنيات نجمات المجتمع، والأكثر تأثيراً فى الحياة، بما فى ذلك حياة العباد والزهاد.

دعنى أكرر لك ما قلته من أنه ليس عيباً أن ينتعش الغناء فى عهد الخليفة يزيد بن عبدالملك، لكن أن يكون الغناء أولوية، والمغنيات صناع الحياة، وجوهر حركة المجتمع، وأن تغطى شهرتهن على شهرة الخلفاء، فذلك أمر يؤشر إلى حالة الهزال التى وصلت إليها الدولة الأموية فى ذلك الوقت.لقد انتقل مسار الانهيار فى عصر يزيد بن عبدالملك من مربع كشف المستور إلى مربع الدولة الرخوة.