حكايتي مع وطن (1) البحث عن الذات المصرية  

10:49 م | الجمعة 03 نوفمبر 2023

لن أحكى لكم حكاية وطن، فلها مَن هُم أهل لها ليحكوها ولا يزالون، لكنى سأحكى حكايتى مع الوطن، حكاية لن تجدوا فيها أرقام الإنجازات، وهى كثيرة، ولن تجدوا فيها مقارنة بين وضع بائس يائس قبل 2014، ومستوى أرقى من التحديات فى 2023.

فقد عشت مغترباً فى بلد أغلب سكانه من أغلب دول العالم، لكنى رسمت لبلدى صورة فى مخيلتى من قصص أمى عن عبدالناصر وعن النكسة وعن نصر أكتوبر، هذا النصر الذى جعلنى وأنا ابن العاشرة أمشى مزهواً ببلدى وأنا ذاهب لصلاة العصر فى يوم ثلاثاء فاصل وكاشف.

وجدت المصلين فرحى مبتهجين يوزعون الحلوى، وفى اللحظة التى أمسكت فيها نصيبى، ألقيتها أرضاً، تاركاً المسجد الذى لم أدخله بعد ذلك أبداً، كانت الفرحة تشفياً بغيضاً باغتيال الرئيس السادات.

تعلقت بمصر أكثر، وزادت مساحة حبها فى قلبى، فلم تترك مكاناً لكراهية مُضمرى الشر، حتى لو غلفوه بـ«حسن نية»، أسرعت باكياً لاجئاً لحصن قصص أمى، فأمدّتنى بالمزيد والمزيد مما يدعو للفخر ببلدى والشفقة على من سواها، من مصر القديمة الباقية، إلى مصر الحديثة الناهضة، مصر الفنون والصناعة، مصر الإبداع والجدارة، مصر التى لا تمل النهوض بعد كل كبوة.

كانت «صحيفة الأخبار»، التى كانت تصلنا متأخرة يومين، تمد روحى بالمدد اللازم للحياة بشكل لا يتصوره من أسساها، كان اسم مصر مقدساً، لا يقبل القسمة على القلب الصحيح، الخالى من الكذب والتضليل، من العمالة والتزوير، ومن الوضاعة والتلفيق.

وفيها قرأت مقالة عن عصر النهضة المصرى، وكيف قاد محمد على «الكبير» عملية استعادة مصر ثقلها وقدرتها. كنت أتابع تولى مبارك الحكم، وعقلى الصغير كان يتصور أنه محمد على «الجديد»، لكن شيئاً مما حلمت لم يحدث، بل العكس تماماً، لكن هذا لم ينل من حب (تا-مرى).

سنين طويلة أنتظر فيها اليوم الذى تهبط فيه قدمى (الأرض المحمية)، وأقسمت «وأنا طفل» ألا أغادرها أبداً، مهما كان فقرها، أو ترهل قدرها، أو قلة حيلة حكامها، هى الجميلة وأنا أنحشر شتاء فى أوتوبيس النقل العام الذى يكاد لا يتحرك من زحام الشوارع، أو أتعلق ببابه فى الصيف هرباً من رائحة الزحام.

هى البهية وأنا أقف فى طابور العيش قرابة النصف ساعة، تضرب الشمس رأسى، وتلسع كفوفى شدة سخونة الأرغفة المعجونة بمسامير أو نشارة خشب، هى المعشوقة وكثير من شوارعها المتهالكة غارقة فى مياه الصرف.

أتذكر كيف دفع أبى 2000 جنيه رسوم تركيب خط التليفون لشقتنا فى مصر ومثلها «تحت الترابيزة» حتى يتجاوز طابور طلبات التركيب «المستعجلة» الذى تصل فترة الانتظار فيه لسنة، حتى يتمكن من الاطمئنان علىّ بدلاً من الوقوف لساعات فى السنترال انتظاراً لإجراء مكالمة دولية.

كان الفرق رهيباً بين البلد الذى نشأت فيه، حيث كان كل شىء متاحاً، من الشيكولاتة السويسرى والجبن الفرنسى إلى الأجهزة الألمانية والسيارات اليابانية، وبين بلدى الذى يعيش أحد أسوأ عصوره.

لكن متعة حب بلدى ظلت تغمرنى، لدرجة أنى بمجرد نزولى لمصر وضعت لنفسى خطة عجيبة للتعرف على معشوقتى التى ظلت رسماً فى مخيلتى، فأردت أن أجعله واقعاً، فقررت ركوب أول أوتوبيس يأتى للمحطة «رايح جاى» بلا وجهة سوى رؤية الشوارع والاستماع لأحاديث ناسها، والتعرف على مبانيها ومنشآتها، كررت الأمر نفسه مع الترام ومترو مصر الجديدة، ثم الميكروباصات، حتى أننى كنت أستمتع «بالشعبطة» وقوفاً على إكصدام «الراما» الخلفى.

مع نهاية الثمانينات كانت مصر تتغير بشكل ملحوظ، ازداد الاندفاع نحو الاستهلاك بشكل مرعب، وارتفعت نغمة تحقير كل ما هو مصرى، والاستهانة بالقطاع العام، وترسخ الجشع بين التجار، وتوحش رجال الأعمال، وأخذت القروض الاستهلاكية تنمو بشكل مخيف، وانطلقت عمليات الخصخصة بدعم من كُتاب ومثقفين، وكان التخلُّص من الصناعة الوطنية نهجاً ومنهاجاً.

لا أستطيع أن أنسى كيف دُمرت صناعة السيارات المصرية بنسب مكون محلى 60%، بعد أن ضيع المسئولون عن مصنع النصر للسيارات الخبرات المتراكمة، فاستبدلوا السيارة المصرية بأخرى تركية بعقود «قزّمت» المكون المصرى إلى 10% فقط، وبعد سنوات قليلة فشلت السيارة التركية وانتهت أى إمكانية لتطوير السيارة «نصر». فى ذلك الوقت كان كل ما ينقصنا قليلاً من تمويل، وكثيراً من الذمة والشرف.

كانت الإرادة السياسية متخاذلة، والدوافع الوطنية متراجعة، فترسخت «الدونية» وأصبح منتهى الطموح السفر للصحراء شرقاً أو غرباً، واستجلاب ثقافة التسلف والأخونة، لطمس الهوية المصرية، كأنها عار.

من رحلات اكتشاف ذاتى إلى غوصى فى مهنة الصحافة، أيقنت أن بداية الانهيار لم تكن هزيمة 67، بل ما حدث بعد 73، لم يكن مسموحاً لمصر المنتصرة أن تستمر فى الانتصار، لم يكن متاحاً للبلد الذى صنع المعجزات وتغلب على يأسه قبل هزيمته أن ينهض ويقود ويقوّض مؤامرات وارثى الثروات المجانية.

دخلت مصر، بيد قلة من أبنائها، نفق العوز ومد الأيادى، وتناقلت نكات الاستجداء من تلك الشقيقة أو ذاك الصديق، وكنت أتعجب لماذا تمنحنا تلك الدولة مليارات الدولارات سنوياً، وترمى لنا الأخرى فتاتاً يسد عجز فاتورة شراء القمح أو البنزين، سنين طويلة لم أكن أملك إجابات تبرّد نار الشك والريبة.

ولما غنى الناس فى الشوارع «تسلم الأيادى»، رافضين قلة الحيلة، ناقمين على عقود الهوان والتركيع، متمردين على فكرة التنازل عن المكانة والريادة و«التسليم» لمحدثى النعمة، لم أكن أتصور أن مجرد الحلم باستعادة المكانة جريمة لا تسقط بالتقادم فى نظر الحفاة المحدثين والمحتلين السابقين والخونة المحترفين.

وكما صنعوا «ذاك» البرتقالى يصنعون الآن «ذلك» السماوى، اقتربت كثيراً من الأول فأصابنى ما أصاب جليس نافخ الكير، وأشفق على الثانى لأنه من الحماقة أنه يتصور أن الإصرار على معاودة المضىّ فى نفس الطريق مرات ومرات سيُفضى إلى نتيجة مختلفة.

لن تمضى أسابيع من الآن، وسيستدعيه «كفيله» كما استدعى مكفوله السابق، ليبث من عاصمة الضباب أو عاصمة السباب أو عاصمة الغراب ما يثير الاشمئزاز.